5 نجوم - 1 صوت
آرثور شوبنهاور ترجمة/د/ رضوان العصبة
تصنيف الكتاب: كتب تطوير الذات
عدد الصفحات: 102
حجم الكتاب: 1.5 MB
مرات التحميل: 12901
يلاحظ الناظر إلي عالم اليوم أن التواصل أضحي سمته ووصفه، وأن الإقناع مراده ومطلبه، وأن الحوار نهجه وطريقته، وأن الحجة آلته وسلاحه: فهذا محامٍ زاده الحجة، إن هو عدمها، فوّت علي نفسه -بلغة شوبنهاور- فرصة حقيقية، وخسر القضية، وذاك سياسي يدافع عن برنامجه الحزبي بشتي الوسائل، واصفاً كل معترض بشتي النعوت، وثالث إنسان عادي بني حياته اليومية علي الحيل والمكائد، وقس علي هذا المنوال في تحديد أصناف الناس وطبائعهم. وعليه يمكن التسليم بأن من النظار من لا يقصد إلا نصرة الحق، ومنهم من ينصر ما اعتقده بغير دليل، وصنف ثالث لا يبالي فيما صرف كلامه، فتراه يستجمع حججه دون مراعاة مدي صحتها ومشروعيتها.
وعليه، لما كان الهدف من كل عملية حجاجية هو الإقناع والإقتناع، وجب الإلتزام بمجموعة من الضوابط النظرية والعملية حتي لا ينفلت الخطاب ويخرج به المخاطب عن سياق القول، وعن قصد المتكلم. ولتلافي مثل هذه الإنزلاقات وجب الإحتراز من أي استخدام لحجة ما لأغراض تمويهية وتضليلية. ذلك أن سمة المغالط تكمن بالأساس في استناده إي أساليب تضليلية وتمويهية تقوم علي الإخفاء والتعتيم، ومع ذلك يحاول أن يجريها مجري منطقياً حتي يخدع الخصم ويجعله يأتي بفعل ذميم، أو يظهر بمظهر مضحك.
كل هذا يقتضي العمل علي تبيان المقصود من كل كلام موجه لغيرنا، بنفس الكيفية التي نحن مطالبون بتدبر كل كلام يتوارد علينا. فمن تلفظ بلفظ فعليه تحديد المعني الذي قصد إليه، لأن ذلك هو السبيل لتلافي أي تغاير بين المقصود والمفهوم. وبالجملة وجب علي العارض، كما علي المعترض أن يجتهدا في ضبط اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما يمكن أن يخل بمعناه ويعيق عملية الفهم والإفهام.
مادام مبتغي المغالط هو الإيقاع بخصمه، فإن عماده استخدام سبل ترغيبه وترهيبه قادرة علي صرف الخصم عن الهدف الحقيقي. وهو ما يجعلنا نلخص سمته الأساسية في كونه شخصاً يظهر خلاف ما يبطنه، سائلاً كان أم مجيباً. فهو قادر بأساليبه التدليسية والتمويهية علي إلباس الكذب صفة الصدق، والباطل صفة الحق. فقد يأتي بحجة مقبولة ظاهرياً لكنه في الباطن يراعي حجة أخري مموهة وهدفاً آخر تغليظياً. فأعظم سلاح المغالط هو التلبيس والتدليس، أي ديدنه أن يعتمد الحجج الملتوية المرائية وأن يدع المستقيمة منها. ولما كان الإنسان آثر لتلك المرائية وأهرع إليها، لما في طبعه من أنانية ومحبة للذات، إذ ليس عنده أوغل في المهانة من رؤيتها منكسرة ذليلة، ولِما عرف به من ميل إلي الخديعة والمكيدة، ولِما أحطت به من أن طريق قويم الحجج وصائبها أضيق، وأن طريق ملوي الحجج وكاذبها أرحب؛ وجب فحص هذا النمط من الحجج المرائية والمموهة قصد الوقوف علي طبيعتها، ومن ثم، تحديد سبل نقضها. ذلك أن كل معتمد علي حجج مموهة يفرض علينا خيارين: إما أن نبين مكمن المغالطة فنقطع عليه مكالمته، وإما أن نجاريه في ذلك ونعمل علي التصدي له ونقض مغالطته.
بماذا تقيّمه؟